التجليّات الروحانية في الفن التشكيلي الإماراتي
تزخر إسهامات الفن التشكيلي الإماراتي بأنماط متعددة من الأعمال الفنية والحروفية المُستقاة من الدفق الروحاني والوجد الصوفي للفنان، ضمن استعاداته المرهفة لأطياف شفّافة تتهادى في فضاءاتها الذاكرات الشخصية، ونداءات الطفولة، والمظاهر الدينية ببعديها الفردي والجماعي، ومن هنا امتاز المشهد التشكيلي المحلي بوفرة الأسماء المنتجة للوحات ذات صلة بالجانب الذاتي المتفاعل مع مناخات روحية وفولكلورية لها وقعها، وتأثيرها الواضح في هذا النوع الخاص من الفنون، والذي نراه متداخلاً مع أصوات الماضي وهي تدوّي بصخب غير مسموع ضمن أفق مغاير للواقعية الخشنة.
بدائل تعبيرية
الرؤية الفنية من منظور روحي تعني أن حقائق العالم ليست حاسمة أو أكيدة في نهاية الأمر، وبالتالي فثمة حاجة لبدائل تعبيرية ترمّم النواقص، وفي ذات الوقت تمارس عليه نقداً يدخل في إطار تعويضي. وعديدة هي الأعمال التي قدمها فنانون إماراتيون في هذا السياق الروحي التعويضي، حيث تراوحت نتاجاتهم بين اللوحات الزيتية، وأعمال الخط والزخرفة، والأعمال التركيبية (الانستلليشن) وأعمال الفيديو آرت، الجامعة بين النسق البصري وبين المحتوى الفكري، وغيرها من الأعمال المترجمة للإلهامات المشتبكة مع الوجد الداخلي، والخلوة الذاتية، والاستنارة الروحية، وما تحتشد فيها من عناصر التجرّد والتخلّي والزهد.
قوة الحرف
من الأسماء البارزة المنتجة لهذه النوعية من الفنون، نذكر كلاً من الفنانة نجاة مكي، وعبدالرحيم سالم، ومحمد يوسف، ومحمد القصاب، ونجوم الغانم، وفاطمة لوتاه، وعبدالله الملّا، وغيرهم، ففي عمل للفنانة نجوم غانم قدمته قبل سنوات بعنوان: «غرفة الأسرار» نرى عملاً تركيبياً يدمج بين إمكانات الصورة وتأثيرات الصوت، والنتائج المدهشة المترتبة على امتزاجهما في سياق تعبيري متدفّق ومتجانس، اعتماداً على حكمة قديمة تقول: «عندما تقرر أن تبدأ الرحلة، سيظهر الطريق»، واعتمدت الغانم في عملها هذا على حصيلة من الأسئلة تولدت لديها في رحلتها نحو العثور على الأجوبة، مستندة على فرضية ترى ارتباط الكثير من الظواهر الكونية بأعداد محددة من الأرقام والمعادلات الرياضية، ويظهر في عملها أنماط من علم الجبر وارتباطه باللغات السامية، ومنها اللغة العربية، في مسعى للوصول إلى أسرار الكلمات في الكون، فضلاً عن الأسرار الكبيرة التي يختزنها جسد الإنسان، والعناصر المتداخلة بين المتناهي في الصغر وبين المتناهي في الكبر، وتشير الغانم إلى أنه إذا كان للتردد حقل مغناطيسي يجب علينا أخذه في الاعتبار، فإن ثمة قوة خارقة في الحرف والأسماء وتردداتها وقياساتها الرقمية، خاصة إذا كانت مرتبطة بأسماء الله الحسنى، وتعاونت الغانم في تقديمها لهذا العمل مع الفنان المعروف سامي يوسف الذي شارك بصوته الرخيم والمؤثر لتعزيز الفضاءات الروحانية واللحظات التأملية في العمل.
شروحات بصرية
أما الفنان الرائد محمد يوسف فيقدم من خلال عمل له بعنوان:«روح الأذان» شروحات بصرية لجماليات الأذان، والطقوس التي يستجلبها النداء السماوي ضمن الحركة العامة للناس في حياتهم اليومية، وما يحدث فيها من تغييرات ملموسة عندما يتجه المصلون للمسجد، تاركين خلفهم صخب السوق وانشغالات الذهن، منساقين بوجد عميق وسط الجموع، والذين يتحولون إلى ما يشبه الجسد الواحد في إيقاع متناغم يتجلّى بشكل أكبر في المناسبات الدينية المهمة مثل شهر رمضان وصلاة العيد، وغيرها من المناسبات التي يصغي فيها البشر لصوت الأذان وكأنه ضوء يرشدهم لوعي مختلف وشديد الخصوصية.
حركة الشمس
يقدم الفنان عبدالله الملا في عمل له بعنوان: «منارات 2.0» تجربة فنية لتتبع حركة الشمس وفقاً لأوقات الصلوات الخمس، وذلك من خلال إنشاء مئذنة حركية تتكون من نمط هندسي مبرمج، بحيث تتجاوب المئذنة مع حركة الشمس، ويشرح العمل سمات التصميم من خلال دراسة للمفاهيم والنماذج الرقمية والتكنولوجية المعتمدة على التعلّم والتكرار، من أجل الوصول لاستكشافات نظرية وبصرية داخل موضوع مركّز باستخدام الأنماط الهندسية.
وفي عمل للفنانة فاطمة لوتاه بعنوان: «معراج» نرى انزياحات بصرية كثيرة تجسّد الثقافة الإنسانية لدى الفنانة وما تطرحه من فلسفة دينية وفكر جمالي، مُتّخِذَةً من موضوع عمارة المسجد نموذجاً لعمل تركيبي فني يضج بالدلالات الروحية، وخصوصاً ما تشكله قبة المسجد من تجليات كونية يتعانق فيها الشكل الهندسي الدائري مع الشوق الصوفي، العمودي في مساراته الافتراضية العلوية، والأفقي في التعامل الأخلاقي مع المجتمع، كما تجسّد القبة أيضاً مفهوم الاحتضان والعناية الإلهية من السماء إلى الأرض.
التعليقات مغلقة.