سلطان القاسمي.. رؤية ثقافية عالمية

يقول صاحب السمو الشيخ الدكتور سلطان بن محمد القاسمي، عضو المجلس الأعلى حاكم الشارقة: «الثقافة هي الأساس في بناء الحوار الإنساني، وخلق التفاهم والوئام بين شعوب العالم كافّة، بِغَضّ النظر عن العرق أو الدّين أو الجغرافيا»، وعبر هذه الكلمات تتجلّى الرؤية الثقافية لصاحب السمو الشيخ الدكتور سلطان بن محمد القاسمي، في كونها رؤية عابرة للمفاهيم الضيّقة والانتقائية، وهي رؤية متجاوزة وطموحة ومشعّة، وتمتلك من الآليات التنفيذية ما يجعلها مشروعاً ثقافياً مستداماً، لا يخضع للثبات والمراوحة، وإنما يسعى ليكون مشروعاً غنياً بالتجربة الإنسانية، وفعلاً ديناميكياً ممتداً في الزمان والمكان، وفي الفكر والروح، وفي الرّاهن والمستقبل.
وتكمن قوة وحيوية «المشروع الثقافي لسلطان القاسمي» في مساره التصاعدي المنطلق من الواقع المحلي إلى العالم العربي وصولاً للمجال الإقليمي والمحيط الدولي، وهذه التراتبية المتدرّجة طرحت ثمارها الثقافية الناضجة في دروب التنوير ومسالك الوعي، والتي اختار سموه وضع خريطتها الدالّة وأهدافها الاستراتيجية النبيلة منذ البداية، ويرى سموه أن نجاح أي مشروع ثقافي كبير مرتبط بالركائز والأسس الداعمة له، والمتمثّلة في: التبصّر والتخطيط والعناية والرعاية، وهذا ما فعله سموه عندما التفت لعصر الأنوار العربية، وتبحّر في التاريخ الذهبي للإسلام، وعمل بجهد ملموس وواضح على بعث المكوّنات الزاهية للهوية العربية وللإنجازات الإسلامية بعلومها النظرية والتطبيقية الفاعلة والمضيئة في وقت كانت فيه الشعوب الأوروبية غارقة في ظلمات الخرافة والجهل والانغلاق إبّان العصور الوسطى، لقد عمل سموه وما يزال على إعادة البريق والألق للهوية العربية والإسلامية وراهن على نهضتها مجدّداً، وإنقاذها من التوصيفات الجائرة والمتشائمة التي وسمتها بالهوية المُشوّشة والمُستَلَبة.

لقد تجسّد هذا الوعي المستنير لسموّه في عباره مهمة يقول فيها: «عملنا منذ عدة سنوات وما زلنا نعمل على مشروعنا الثقافي، وهدفنا أن يكون هذا القرن هو قرن أنوار الأمة العربية، لنزيل الأفكار الظلامية ونرفع راية العقلانية عالياً».
وتترجم هذه المقولة طاقة ودافعية مشروع الشارقة التنويري، حيث يرى سموه أن الاهتداء بالعقل هو مبتدأ الفعل، وهو الكفيل بالتسامي فوق الغرائز البشرية السلبية القائمة على الصغائر والنظر القاصر، غرائز مثل: الأنانية والعنصرية والجشع والتمحور حول الذات، فـ«الرباط الكوزموبوليتي» بين شعوب العالم إذا صحّ الوصف -لا يتأسس إلاّ على الحوار والتعايش وتبادل المعارف والخبرات، والشعوب المنغلقة وذات الفكر الأحادي لا يمكن أن تزدهر وتنمو وتواكب التطور المدني والعلمي والثقافي، وهي شعوب آيلة للانقراض والنكوص التراجع والفوضى من دون شك.

ثلاثة عناصر رئيسة
تتنفس الرؤى والمبادرات الثقافية لصاحب السمو الشيخ الدكتور سلطان بن محمد القاسمي، في فضاء قائم على ثلاثة عناصر رئيسة هي: الاستفادة من دروس وعبر الماضي، نشر الوعي الخلّاق في الحاضر، وإنشاء البنية الثقافية التحتية القارئة للتطورات المستقبلية، والقادرة في الآن ذاته على مواجهتها والتكيّف مع ظروفها وإشكالياتها وأسئلتها، إنها المبادرات التي ارتأى سموه تفعيلها في الجيل الحالي، خصوصاً وسط الناشئة والشباب، وتهيئة الجيل القادم أيضاً للاستفادة من نتائجها وعطاياها، باعتبارها خزيناً ثقافياً لا ينضب، ورافداً معرفياً لا يجفّ.
ويعدّ معرض الشارقة الدولي للكتاب أحد الأعمدة الثقافية الراكزة التي استند عليها مشروع صاحب السمو الشيخ الدكتور سلطان بن محمد القاسمي، فهو مشروع انطلق من الشارقة والإمارات، ليمتد صداه وإشعاعه وتأثيره في الرؤية المستقبلية الطموحة للعاصمة العالمية للكتاب، ولعاصمة الثقافتين العربية والإسلامية، كجناحين يحلقان في فضاء المعرفة المستنيرة منذ بدايات عصر التدوين وحتى زمننا الراهن المتجلّي بأنساقه التفاعلية المتطوّرة في حقول القراءة والكتابة والنشر والطباعة.
وتقوم فلسفة التوجّه الثقافي في الشارقة على خلق هوية متوازنة تراعي الجذور العربية والإسلامية، وتستقي النماذج الفريدة في تراثنا التاريخي، وتحاور بثقة التيارات المعاصرة في الأدب والتشكيل والمسرح والسينما وغيرها من الفنون التعبيرية.
إن عرض الأعمال المسرحية لصاحب السمو حاكم الشارقة في الحواضر العالمية العريقة، مثل روسيا وألمانيا ورومانيا وفرنسا وغيرها، يشير وبشكل واضح إلى رغبة سموه في جعل المسرح منصة للحوار الثقافي الخلّاق مع الآخر، وتحويل الفنون التعبيرية إلى جسور للتواصل مع المرجعيات المتنوعة، وتأصيل دور الثقافة العربية في قدرتها على المزج بين الخصوصية والشمولية، ولأن الحضارة العربية كانت وما تزال طرفاً فاعلاً في توجيه بوصلة المستقبل، فقد أسهمت وبقوة في تطوير العلوم الإنسانية، ليس فقط من خلال التاريخ والتقاليد، أو الجذور والذاكرة والجغرافيا، ولكن من خلال مشروع ثقافي ممتلئ بالوعود، وحافل بالمفاجآت الرائعة.

انحياز للرقيّ المعرفي
ويقول سموه في إحدى شهاداته المؤثرة والمُلهمة: «لا شك أن التعطش للمعرفة، والرغبة في التعرف على تقاليد وتجارب إنسانية جديدة، يسهم في خلق روابط عالمية لها تأثير أكبر بكثير من المدن الجديدة أو القوى العسكرية، لأن المحرك الحقيقي للحضارة دائماً ما يستند إلى روح الشعب، الذي يصنع هذه الحضارة، وعلى مدى حبه وتمسكه بثقافته. في الماضي، كان القادة العسكريون يكتبون تاريخ العالم عبر نشر المزيد من الكراهية، وتراجع القيم الإنسانية، في حين كان الشعراء والكتاب يكتبون التاريخ بمشاعر إنسانية تعكس نقاء الفنان».
وتعكس مقولة سموه هنا انحيازه الكامل للرقيّ المعرفي والأخلاقي، والتركيز على الإنسان باعتباره «جوهر الوجود» والمُكلّف في الرسالات السماوية بإعمار الأرض، ونمائها وازدهارها، ضمن السيرورة الحياتية، والصيرورة التاريخية، والتطور الحضاري منذ اكتشاف النار، إلى اكتشاف الفضاء.
ويؤكد الاحتفاء المتكرر بالشارقة كضيف شرف في معارض الكتب الدولية على تأثيرها الثقافي الملموس عالمياً، والذي حقق للشارقة والإمارات نقلة نوعية فيما يخصّ الصناعة الثقافية، والقوة الناعمة، حيث حلت الشارقة ضيفاً في العديد من معارض الكتب الدولية.
لقد تحوّل مشروع الشارقة الثقافي من هاجس فكري مكثّف لمدينة ساحلية واعدة في خمسينيات القرن الماضي، إلى بنية لصيقة بالعمل الإداري والتنفيذي للحكومة في السبعينيات، لتصبح الشارقة بعدها منارة ثقافية عتيدة وصامدة في وجه التحولات الجيوسياسية بالمنطقة، وقد راهنت الشارقة على الثقافة، ووقف حاكمها المستنير خلف كل إنجاز جديد ومتجدد تحققه محلياً وإقليمياً وعالمياً.

حلم مُشرق
فمن أروقة وردهات دائرة الثقافة والإعلام بالشارقة في الثمانينيات المنصرمة، كان حلم سموه الثقافي ينمو ويتشكلّ ويتجاوز السقف المنخفض والاعتيادي والاستعراضي للثقافة، كان حلماً محلّقاً واستثنائياً ومتوهجاً، ولكنه لا يحلّق في الفراغ، بل يتّصل دوماً بالعمل الكبير والجهد الدؤوب والفعل الحقيقي، فتفرّعت من دائرة الثقافة والإعلام، مؤسسات وهيئات ومبادرات تواكب هذا الحلم، وتفتح له حقولاً ومجالات أكثر اتساعاً ورحابة وطموحاً، وصارت هناك هيئات مستقلة للمسرح والتراث والآثار والكتاب وغيرها، واستمرت الدائرة الثقافية بالشارقة في اشتغالها النشط محلياً وعربياً من خلال الإصدارات النوعية مثل: مجلات: (الشارقة الثقافية)، و(القوافي) و(الوسطى) و(الحيرة من الشارقة) باعتبار منطقة الحيرة موئلاً معرفياً قديماً وملهماً في الإمارة، وشكّلت مع منطقة المريجة والخان وغيرها مراكز إشعاع ثقافي مبكّر تمثّل في الجماعات والمجالس الأدبية، وظهور نخب فكرية وإبداعية بارزة فيها خلال الأربعينيات الماضية وما بعدها، كما عملت الدائرة الثقافية على تطوير آليات (جائزة الشارقة للإبداع العربي) وهي جائزة تأسست انسجاماً مع جهود حاكم الشارقة في دعم الموهوبين من الكُتّاب والكاتبات، في دولة الإمارات وفي أنحاء الوطن العربي الكبير.
وعملت الدائرة الثقافية وبتوجيهات سموه على إنشاء بيوت الشعر في مدن وحواضر عربية كبرى مثل المفرق الأردنية، والأقصر المصرية، والخرطوم، ونواكشوط، وتونس، والمغرب، إضافة للمهرجانات الفعاليات المتنوعة للدائرة مثل: مهرجان الشارقة للشعر العربي، ومهرجان الشارقة للشعر الشعبي، بينما اضطلعت الهيئات الثقافية الأخرى في الشارقة بتنظيم أحداث ثقافية مهمة محلياً وعربياً ودولياً، مثل أيام الشارقة المسرحية، ومهرجان أيام الشارقة التراثية، ويوم الراوي، ومهرجان المسرح المدرسي، ومهرجان المسرح الكشفي، ومهرجان المسرحيات القصيرة، وملتقى الشارقة للبحث المسرحي، وملتقى المسرح العربي، وملتقى الشارقة للخط العربي، ومهرجان الفنون الإسلامية، وكرنفال خورفكان المسرحي، إضافة لبينالي الشارقة الدولي، وتخصيص جوائز للمبدعين المحليين والعرب والعالميين، مثل جائزة الشيخ سلطان لأفضل عمل مسرحي عربي، وهي الجائزة المنبثقة من الهيئة العربية للمسرح ومقرها الشارقة، وجائزة الشارقة للثقافة العربية – اليونسكو.
وفي فيما يخص المكتبات الحديثة في الشارقة، تعدّ مكتبة «بيت الحكمة» أحد الصروح الثقافية الجديدة واللافتة بالإمارة، وتشكّل إضافة نوعية ومبتكرة لعشّاق القراءة والشغوفين بالكتب والمصنفات والمراجع العلمية والأدبية وبعدة لغات.
أما مكتبة الشارقة العامة، التي أفتحت في العام 2011، فتضمّ جميع فنون الأدب والمعرفة في العالم، وتقدم 3008 كتب إلكترونية وصوتية، وتحوي المكتبة الكثير من الكتب والمخطوطات النادرة التي تحمل قيماً تاريخية.
كما تنظم الشارقة من خلال متاحفها التخصصية العديد من المعارض الفنية المضيئة على التجارب التشكيلية العالمية، والأعمال الرائدة، وتحتضن كذلك المواهب الشابة، وتعمل على تطوير قدراتها في مجالات النحت والتشكيل والتصوير الفوتوغرافي وفنون الفيديو آرت وغيرها.

فكر مستنير وعطاء متواصل
تلخّص كلمات الاحتفاء بصاحب السمو الشيخ الدكتور سلطان بن محمد القاسمي عند نيله جائزة سايمون ماستر الرفيعة في دورتها الثالثة بلندن عام 2017 ما يستحقه سموه من إشادة وتكريم نظير مسيرته العلمية وجهوده الثقافية المحلية والدولية وعطائه الفكري اللامحدود، حيث يرد في حيثيات التكريم أن: «صاحب السمو حاكم الشارقة خير من يستحق أن يمنح هذه الجائزة، كونه عمل وخلال ما يربو على ثلاثة عقود على أن ينهض بالثقافة في إمارته حتى جعلها منارة ثقافية علمية في مختلف العلوم والفنون والآداب، ولَم يكتف بذلك وحسب، وإنما امتدت عطاءاته لخدمة الثقافة والمثقفين في مختلف المجالات في جميع أقطار العالم العربي، وعمل جاهداً على تعريف الآخر بكنوز الثقافة العربية والإسلامية من خلال مشاركاته الدولية في مختلف المحافل الثقافية ليقدم صورة حقيقية عن ثقافة بيئته العربية والإسلامية، فضلاً عن ذلك كله فهو يحمل شهادات أكاديمية بدرجات علمية عالية ساهمت وبلاشكّ في خلق فكر مستنير وواضح لإمارته ولمشاريعه التنموية الثقافية والعلمية».

التعليقات مغلقة.

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد