“عين زبيدة” تراث عمراني هندسي فريد ظل يسقي حجاج بيت الحرام وأهل مكة لأكثر من 1255 عاماً
مع زيادة أعداد المسلمين في العصور الإسلامية الأولى خاصة الأموي والعباسي شكلت قلة مصادر المياه بمكة المكرمة والمشاعر المقدسة معاناة لأهلها خاصة في موسم الحج مع قدوم أعداد كبيرة من الحجاج والمعتمرين، الذين كانوا يواجهون صعوبات جمة من نقص المياه خلال رحلتهم صوب مكة المكرمة والمشاعر المقدسة.
ورغم المحاولات الكبيرة لتوفير المياه للمشاعر المقدسة ومكة المكرمة في العهد الأموي حيث بنيت السدود وحفرت الآبار والعيون، إلا أن إنشاء “عين زبيدة” في العصر العباسي عام (194هـ) جاء ليشكل حلاً جذرياً لمشكلة شح المياه في البقاع الطاهرة وما جاورها من قرى ومناطق لمئات السنين، كانت المياه تتدفق من هذا الوقف الإسلامي العظيم بغزارة حتى أصبحت تسقي المزارع والحقول الواقعة قرب مسارها، ما جعلها مزاراً سياحيا وريفياً لأهالي مكة المكرمة، وزوار بيت الحرام من حجاج ومعتمرين، وظلت كذلك إلى أن حلت محلها الأنابيب ووسائل الضخ الحديثة خلال العقود القليلة الماضية في العهد السعودي.
وتشكل “عين زبيدة” إرثًا حضاريًا وهندسيًا عظيمًا يجسد عظمة الإنسان الذي عاش على ثرى بلاد الحرمين والشريفين الطاهر وقوة عزائمهم التي شقت الجبال واخترقت الهضاب وطوعت التضاريس الصعبة لبناء حضارة إنسانية عظيمة جعلة الإنسان وتنميته وتلبية حاجاته في أولى اهتمامها متخذين من كتاب الله الكريم وسنة المصطفى محمد بن عبدالله عليه أفضل الصلاة والسلام دستوراً ومنهجاً لخدمة البشرية كافة.
هذا المشروع الهندسي الجبار أبدع من أجله شتى التقنيات في هندسة وتشييد القنوات، لم تعرفها البشرية قبل ذلك في التهوية والتنظيف وجر المياه من الأودية ومصابها في المرتفعات بواسطة “الدبول”، وطرق ترشيد المياه وتصريفها للاستفادة منها في سقية المزارع المحيطة بالمسارات، وطرق حماية العين من السيول، والتي حفر لها في الجبال أنفاقاً، ورفعت من أجلها القناطر في الأودية، لتدفع المياه عبر “الدبول” التي بلغ عمقها في بعض المواقع نحو (60 م).
يتجاوز طوله مسارات هذه العين التاريخية العظيمة (30كلم) وتتضمن العديد من “الخرزات” تعمل عمل غرف التفتيش، ويبلغ عددها 132 خرزة، تبدأ عند الخرزة رقم (1) بوادي نعمان وتتجه صوب مكة المكرمة، لتظهر في عرفات حول جبل الرحمة في أول ظهور لها جنوب شرقي عرفة، ثم تتجه لتمر ببطن وادي عرنة ومنه إلى منطقة القطانية غرب وادي عرنة، ثم على السفوح الجنوبية والغربية لجبال المنطقة بين عرفات ومزدلفة، ثم تظهر القناة مرة أخرى في حي العزيزية بمكة المكرمة في أماكن عدة، ويظهر الجزء الأخير منها بعد جسر الملك خالد، وبعد ذلك المكان أزيلت القنوات وبنيت عمارات مكانها، وتحتوي العين- إضافة إلى الخرزات والقنوات- على مبانٍ إدارية وخزانات لتجميع المياه وبرك، وغير ذلك.
وصرح المؤرخ والباحث في تاريخ مكة المكرمة الدكتور محمد بن حسين الشريف، موضحاً أن “عين زبيدة” تمثل إرثًا حضاريًا وهندسة معمارية فريدة من نوعها ، أن العين تنسب إلى السيدة زبيدة بنت جعفر بن المنصور الهاشمية العباسية، زوجة الخليفة العباسي هارون الرشيد، وذلك عندما قصدت مكة المكرمة للحج سنة 186 هجرية، وجلبت إليها الماء من جبال الطائف بأقصى وادي نعمان، شرقي مكة.
وأقامت الأقنية حتى أبلغت الماء إلى مكة، مبينناً إلى مشروع السيدة زبيدة العظيم لم يبدأ به إلا بعد عام 194هـ حسب ما أشار إليه عدد من المؤرخين .
وقال الدكتور محمد الشريف، إنه بعد أن أدركت السيدة زبيدة مدى الصعوبات التي تواجه الحجاج خلال طريقهم إلى مكة من نقص المياه، أمرت خازن الأموال بتكليف أمهر المهندسين والعمال لإنشاء هذه العين، أسرّ لها الخازن أموالها بعظم التكاليف التي سوف يكلفها هذا المشروع، فقالت له كلمتها المشهورة “اعمل ولو كلفتك كل ضربة فأس دينارًا”، وأمرت بحفر قنوات مائية تتصل بمساقط المطر، واشترت جميع الأراضي في الأودية التي تمر بها مسارات العين.
وبين الدكتور الشريف إلى أن عين زبيدة تنبع من جبل شاهق يقال له: “طاد” يقع بين جبال سود عاليات تسمى جبال “ثقبة”، تقع في طريق (الطائف – مكة) ، وكان هذا النبع يسقي نخلاً ومزارع في أرض “حنين” ما يعرف حالياً “بشرائع النخل”، موضحاً إلى أن السيدة زبيدة اشترت تلك المواضع، وأجرت الماء في قنوات إلى مكة، وأضافت إليها عدداً البرك التي صنعت لتجتمع فيها أمطار بعض الجبال، وقد تحولت تلك البرك بعد التعمير والتحسين عيوناً، فأطلق على كل بركة منها (عين)، والسبع العيون، أو السبع البرك هي: مشاش، وميمونة، والزعفران، والبرود، والطرفي، وثقبة، والخريبان، وتصب مياهها جميعاً في مجرى عين “حنين” التي هي عين زبيدة الحقيقية.
وأشار الشريف إلى أن السيدة زبيدة أمرت كذلك، بجرّ “عين وادي نعمان إلى عرفة”، وهي مياه تنبع من ذيل جبل “كرا” بأرض الطائف، إلى موضع يُقال له “الأوجر” في وادي نعمان، ومنه تجر المياه في قنوات أرضية إلى عرفة، وصولاً إلى جبل “الرحمة” حيث تُدار القناة على محيط الموضع الشريف، وجعلت منها فروعًا إلى البرك التي في أرض عرفة ليشرب منها الحجاج يوم عرفة، كما هيأت الأماكن الخاصة لذلك على شكل حنفيات حجريّة جميلة الشكل، ليشرب الحجاج منها بكل يسر وسهولة، وبُني أيضاً في هذه القنوات الملتفّة بجبل الرحمة مجارٍ لتجميع مياه الوضوء وصرفها إلى المزارع المجاورة لمشعر عرفة.
واستطرد الدكتور محمد الشريف حديثه عن تفاصيل بناء هذا المشروع المائي العملاق التاريخي قائلاً “إن السيدة زبيدة بنت جعفر المنصور – رحمها الله – أمرت بأن تمتد هذه القناة من أرض عرفة إلى خلف الجبل، إلى منطقة يسميها أهل مكة، “المظلمة” تخترق القنوات خرزات، أو ما يُسمّى حاليًّا “بغرف تفتيش” بعضها ظاهر على سطح الأرض، ويُسمى بالخرزات الظاهرة، وأخرى مدفونة حُدّد مكانها دون أن تظهر على سطح الأرض، والجدير بالذكر فإن القناة تمرّ بمجرى أحد السيول، لذا فقد بُني سدٌّ لحجز تلك السيول، والتحكم في تدفّقها لسقي المزارع الواقعة في أسفله، ولا تزال أجزاء من هذا السدّ باقية حتى الآن ويمكن مشاهدته، ومن ثمَ تصل إلى مشعر “مزدلفة” ثم إلى جبل خلف “منى”، ثم تصبّ في بئر عظيمة مرصوفة بأحجار كبيرة جدًا تُسمّى “بئر زبيدة”، ويمتدّ هذا المجرى إلى مكة المكرمة مرورًا بمنطقة العزيزية، ثم إلى منطقة الششة، وتمرّ بعدها بـ “المعابدة”، وتستمر هذه القنوات متجهة نحو مكّة المكرّمة، لكنها تعود لتأخذ مسارها مدفونة على أعماق قريبة من سطح الأرض، حتى تصبّ في بئر عظيمة مطويّة بأحجار كبيرة جدًا تُسمّى أيضًا “بئر زبيدة”، في منطقة تُسمّى اليوم بـ “محبس الجن”، وإليها ينتهي امتداد هذه القناة العظيمة (قناة عين زبيدة) .
وبين الدكتور محمد بن حسين الشريف أن عين حنين تلتقي مع عين زبيدة – وهي مغذية لها – القادمة من أسفل جبل كرا بأعلى وادي نعمان وتمر قناتها بوادي نعمان ثم عرفة ثم مزدلفة ثم العزيزية ثم الششة فالروضة حيث تلتقي مع عين حنين في قناة واحدة عند بستان بنونة “قصر الملك فيصل” المجاور لمبنى إمارة منطقة مكة المكرمة.
واختتم الدكتور محمد بن حسين الشريف حديثه قائلاً ” اختفوا وبقي الأثر وما أعظمه من أثر، فجزاهم الله عنا وعن المسلمين ألف خير”.
التعليقات مغلقة.