أردوغان وأوهام الإرث العثماني في ليبيا
كتب- د. علي الدين هلال
في تعليقه على لقاء الرئيس عبد الفتاح السيسي مع مشايخ ورؤساء القبائل الليبية يوم الخميس 16 يوليو الحالي والذي طلبوا فيه دعم مصر ضد التدخُّل العسكري التركي غير الشرعي، قال الرئيس أردوغان إن علاقات بلاده بليبيا ليست وليدة اليوم أو الأمس وإنما تمتد لخمسة قرون وأنه متمسك بالحفاظ على هذه العلاقة. فعن ماذا يتحدث أردوغان؟
إن المُتابع لتصريحات أردوغان من ديسمبر 2019، يُلاحظ أنه يبرر التدخُّل العسكري التركي في ليبيا بالإشارة إلى بعض الأسماء والوقائع خلال فترة الاحتلال العثماني لليبيا “1551-1912”. فأشار مرة إلى القائد البحري العثماني “خير الدين بربروس” الذي نشط في البحر المتوسط في النصف الأول من القرن السادس عشر. ومرة أُخرى إلى الزعيم “مصطفى كمال أتاتورك” الذي شارك وهو ضابط صغير في الحملة العسكرية العثمانية في ليبيا عام 1911.
وحقيقة الأمر، أن هذه الإشارات هي توظيف سياسي لأحداث التاريخ وإخراجها من سياقها الذي حدثت فيه. فخير الدين بربروس تُوفي عام 1546 أي قبل سيطرة القوات العثمانية على مدينة طرابلس في عام 1551. ثُم أنه مارس نشاطه في البحر مع أخيه “عروج” بشكلٍ مُستقل، وسيطرا على الجزائر عام 1516. وبعدها سعت السُلطات العثمانية إلى الاستفادة منهما، فعيَّنت عروج والياً على الجزائر وخير الدين أميراً للبحر في غرب المتوسط. أما بالنسبة للحملة العسكرية التي شارك فيها أتاتورك فقد انتهت بهزيمتها على يد الإيطاليين عام 1911. ولا يُمكن الإشارة لأتاتورك على أنه رمز عثماني لأنه هو الرجل الذي أنهى الوجود القانوني للسلطنة العثمانية في عام 1924، وأعلن قيام جمهورية تركيا الحديثة على أسس مُناقضة تماماً لكل ما مثَّلته السلطنة.
أشار أردوغان أيضاً إلى وجود مليون ليبي من أصول تركية، وأن بلاده لا يُمكن أن تقف مكتوفة الأيدي أمام ما يحدث لهم. وربما قصد بذلك سلالة الجنود الأتراك الذين عملوا في ليبيا. وهذا الادعاء ليس له سند علمي أيضاً، فعلى مدى القرون اختلطت الأصول العِرقية التي انتسب إليها الليبيون وانتقلوا من مكان إلى آخر وهاجر بعضهم إلى بلاد عربية أُخرى. إضافة إلى أن مثل هذا الادعاء يُمثِّل نظرة استعلائية عِرقية من جانبه تجاه بقية الليبيين.
أردوغان يجتزئ وقائع التاريخ ويختار منها ما يُريده لتبرير أهدافه التوسُّعية وبسط نفوذ تركيا في أكثر من مكان على الأراضي العربية.
وفي ليبيا، فإن الإرث العثماني تَمثَّل أساساً في سلسلة من الولاة الذين استبدُّوا بمصائر البلاد والعباد، وغالوا في جمع الميري أي “الضرائب” وفرض عقوبات جائرة ضد من لا يستطيعون دفعها حتى في أوقات الجفاف، وحاولوا إحداث الوقيعة بين القبائل، وأطلقوا يد الجنود الإنكشارية للبطش بكُل من يخالف الوالي.
كان هؤلاء الولاة يُعيَّنون من قِبَل الباب العالي، واشتهر كثير منهم بالفظاظة وسوء الخلق وعدم امتلاك الخبرات الإدارية المؤهِّلة لإدارة الأمور، ووصل كثير منهم إلى هذا المنصب من خلال تقديم الهدايا إلى كبار الموظفين في الباب العالي حتى يتم ترشحيهم للسلطان الذي كان يُصدر الفرمانات بتعيين الولاة.
وترتب على ذلك، أن الولاة تنافسوا في فرض الضرائب وجمعها لكي يستعيدوا الأموال التي دفعوها مُقابل تولِّيهم المنصب خاصة مع معرفتهم أنهم لن يستمروا في مواقعهم كثيراً. وتكفي الإشارة إلى أنه خلال الفترة من 1835 إلى 1911، تولى منصب الولاية ثلاثة وثلاثون شخصاً، استمر ثلاثون منهم في مناصبهم أقل من عامين.
وكرد فعل للسياسات والممارسات الجائرة للسلطات العثمانية، فقد قامت القبائل الليبية بسلسلة من الانتفاضات والثورات على مدى القرنين الثامن عشر والتاسع عشر. وكان منها ثورة قبائل الرقيعات والربائع والمحاميد في غرب ليبيا، وثورة أولاد سليمان والفرجان في الوسط، وثورة الجوازي في الشرق. وتم إخماد هذه الثورات بالعُنف، مما اضطر أعداداً من أبناء هذه القبائل للهجرة إلى مصر وتشاد والنيجر.
ولإعطاء صورة عن النضال الليبي، أتوقف أمام نموذجيْن. الأول، ثورة الشيخ غومة المحمودي الذي اعتقلته السُلطات بسبب عدم دفعه الضرائب. وأطلق اعتقاله شرارة الانتفاضة المسلحة ضد الحكم التركي لقرابة رُبع قرن (1835-1858).
وعندما اضطرت السُلطات للإفراج عنه لتهدئة الناس، فإن ذلك لم يوقِف الانتفاضة وقام الشيخ بدعمها وقيادتها. وتمثَّلت أهداف الانتفاضة في رفض دفع الضرائب المُجحفة، ورفض العقوبات الجائرة -وأحياناً الوحشية- التي فُرضت على غير القادرين على الوفاء بها.
والثاني، ثورة الشيخ عبد الجليل سيف النصر الذي رفض بدوره دفع الضرائب، وقاد حركة مسلحة، فأمر الوالي بإعدامه وبالقبض على أبنائه وإرسالهم كرهائن إلى إسطنبول.
شعرت السُلطات العثمانية بالخطر من هاتين الانتفاضتيْن في شرق البلاد وغربها. وأدى استمرارهما إلى تغيير ولاة طرابلس خمس مرات اعترافاً من السُلطات بفشل كل منهم في التعامُل مع الانتفاضة. وسعى العثمانيون إلى احتواء الشيخين، فتم تعيين المحمودي والياً على الجبل الغربي، وعبد الجليل على فزان.
ووعد الوالي بخفض الضرائب وإعادة العرب لوظائفهم، ولكن سُرعان ما نقض وعوده، فعاد الشيخان إلى استكمال الثورة، وانتهى الأمر بهما إلى الاستشهاد. فالشيخ المحمودي، أُطلق عليه الرصاص بعد أن اهتدت القوات العثمانية إلى مكان إقامته، أما الشيخ عبد الجليل فقد تم قتله أيضاً وطاف الجنود برأسه في شوارع طرابلس لإثارة الخوف والفزع بين الناس.
ويبقى أن الإرث العثماني في ليبيا تضمَّن تنازل الدولة العثمانية عنها لمملكة إيطاليا. ففي أعقاب هزيمة الجيش العثماني أمام القوات الإيطالية في العمليات العسكرية التي دارت خلال الفترة من 29 سبتمبر 1911 إلى 18 أكتوبر 1912، تم هذا التنازل بمقتضى معاهدة “أوشي” التي وقَّعها البلدان يوم 18 أكتوبر 1912 في قلعة أوشي بأحد ضواحي مدينة لوزان السويسرية. واستخدمت السُلطات الاستعمارية الإيطالية هذه المُعاهدة لتبرير احتلالها العسكري في ليبيا.
انصرفت الدولة العثمانية إلى حال سبيلها، واستمرت مُقاومة الشعب الليبي وبدأت صفحة جديدة من نضاله بقيادة المُجاهد “عُمر المُختار” الذي كانت من أولى معاركه ضد الإيطاليين معركة درنه في مايو 1913، وأعقبها في أكتوبر من نفس العام معركة عين مارة واستمر في جهاده حتى أعدمته السُلطات الإيطالية بعد محاكمة صورية في سبتمبر 1931.
فبماذا يفتخر الرئيس أردوغان!
تحليل نقلا عن بوابة العين الإماراتية
التعليقات مغلقة.