فلنتحدث بكل الواقعية وبعيدا عن كل الطوباويات، ومن يقول بعكس ذلك أي بالخيار العسكري في مواجهة إسرائيل فليثبت لنا قوته في ساحة الوغى وليفند ما ندعيه وعندها سنكون مجبرين أو طواعية على تغيير هذا العنوان. نحن مع القضية الفلسطينية على أنها قضية عادلة؛ ولكن هذا غير كاف ولا يضيف أي شيء في استرداد الحقوق، لأن الحقوق لا تعطى ولا تسترد بالشعارات الجوفاء وبالمظاهرات المليونية التي أدخلت العالم العربي إلى أرقام “غينس” ولم تدخله ولو بشبر واحد من تراب أريحا. ولذلك، يجب أن نتوقف عن بيع الوهم، فالعالم بأسره يشهد عن العرب بأنهم ظاهرة صوتية، غوغائيون إلى أبعد الحدود. ولقد خاض العالم العربي حروبا مع إسرائيل وفي ظروف عربية أفضل بكثير مما هو الحال عليه اليوم، وكانت الهزائم متتالية حولناها بقدرة قادر إلى انتصارات وهمية هي الأخرى.
وما دام الخيار العسكري غير متوفر وأن ميزان القوة لصالح إسرائيل، فيجب إذن البحث عما هو ممكن وما هو أقرب للواقع أي بالعمل على تحريك الوضع عوض إبقائه في حالة اللاحرب واللاسلم. ومن المؤكد أن خيار السلام سيعمل على تحريك تلك المياه الراكدة، ولو بعد فترة؛ لكن يجب أن يكون فيها المفاوض الفلسطيني على قدر كاف من المسؤولية والواجب تجاه قضيته، وأن يكون على موقف موحد بعيدا عن الحسابات الشخصية والحسابات السياسية بين الأطياف الفلسطينية.
ولهذه الاعتبارات وغيرها، فإننا نعتقد أن المنحى الذي اتخذته دولة الإمارات العربية المتحدة في ابرام اتفاق مع إسرائيل هو المنحى الذي يجب أن يكون في نهاية المطاف. فالقيادة الإماراتية محقة ولها أسبابها واعتباراتها؛ منها ما هو مرتبط بالوضع الإقليمي، ومنها ما له صلة مباشرة بالاعتبارات الخاصة لدولة الإمارات، نحاول أن نجمل أولها في ما يلي:
الاعتبارات الإقليمية
1 ـ الوضع العربي برمته في حالة وهن شديد ممزق ومشتت أكثر من ذلك الذي كانت تتمنى أن تراه إسرائيل. كل دولة مجاورة لأختها فهي عدوة لها تخطط وتضمر لها الدسائس للإيقاع بها، وهي حالة نجدها في المغرب الكبير وفي المشرق وفي الخليج العربي.
2 ـ اختفاء الدول العربية التي كانت ترى في نفسها بدول المواجهة عن دائرة التحدي؛ بل أكثر من ذلك بات وجودها، اليوم، مهددا. أين هي سوريا وأين هو العراق وأين هو لبنان وما بقي من الأسماء سوى أشباح الدول. اندثرت جميعا وإسرائيل لم يلق بها بعد في بحر غزة وحُوتها جائع ينتظر ذلك اليهودي ليفتك بجسده.
3 ـ ثالثة الأثافي، التي تنضاف إلى مصائب الجسم العربي الموهون، هي وجود مخاطر وتهديدات من دول إسلامية تريد النيل من بعض الدول العربية. وأخص بالذكر كلا من إيران وتركيا اللذين لهما أجندات خاصة بهما تهم المنطقة، وهي تعكس صراعا بين طهران وأنقرة، لتتعارض ومصالح دول المنطقة؛ بل إنها تهدد الكيانات الخليجية أكثر ما تهدد الكيان الإسرائيلي. وما نلاحظه هو تمدد الهلال الشيعي لخنق الخليج العربي، وبالتالي يحق لنا أن نتساءل هل تحرير القدس يمر عبر احتلال الرياض وأبوظبي والمنامة والعراق ولبنان واليمن وهي اليوم دول خاضعة للاحتلال غير المعلن وبتواطؤ من الأذرع الشيعية الممتدة داخل بعض هذه الدول.
الاعتبارات الخاصة بدولة الإمارات العربية المتحدة
طبيعي أن تؤول التطورات إلى ما آلت إليه من اتفاق إسرائيلي إماراتي بحكم الأوضاع العربية المتردية. ومن حق أبو ظبي ألا تبقى حبيسة سياسات عربية قائمة على الرياء والنفاق واختزال كل الوهم في كون الخطر الذي يتهدد المنطقة مصدره الكيان الإسرائيلي، بينما الخطر الحقيقي كما هو في الواقع مصدره اليوم دولتان تحيطان بالمنطقة العربية: الشيطان الفارسي والنمرود التركي. ولذلك، فإن خيار أبو ظبي بإبرام اتفاق مع تل أبيب تمهيدا لإقامة علاقات دبلوماسية هو خيار إستراتيجي فرضه تكالب القوى المتآمرة على دولة الإمارات العربية المتحدة التي تريد النيل من وجودها.
1 ـ مما لا شك فيه أن الجمهورية الإسلامية الإيرانية تحتفظ بمخطط مناوئ لمنطقة الخليج، وخاصة دولة الإمارات العربية المتحدة التي توجد على مرمى حجر من الجانب الإيراني. وفي ظل التشنجات الإقليمية بسبب الدور الذي تريد أن تلعبه أبوظبي على الصعيد الإقليمي، ازداد منسوب العداء الإيراني للإمارات وأصبح قلق القيادة الإماراتية على أمنها واستقرارها مبررا. أضف إلى ذلك أن جزءا من الأراضي الإماراتية ما زال خاضعا للاحتلال الإيراني. ويخشى أن يترجم هذا الاحتلال إلى تدخلات في الشؤون الداخلية للإمارات عبر طوابير إيرانية لها وجود في البلاد، والنموذج العراقي ليس ببعيد عن المنطقة. ولذلك، فإن الاستعانة بالولايات المتحدة الأمريكية وإسرائيل يندرج في سياق إيجاد قوة رادعة لإيقاف المارد الفارسي والحيلولة دون تحقيق مطامعه في دولة الإمارات العربية المتحدة.
2 ـ التهديدات التركية الأخيرة للإمارات العربية المتحدة، وهي تهديدات حقيقية قد تكون ساهمت هي الأخرى في أن تتخذ أبو ظبي قرارات إستراتيجية لحماية نفسها من أي خطر لا ينبغي الاستهانة به؛ فتصريحات الجنرال خلوصي أكار، وزير الدفاع التركي، التي وصف فيها الإمارات العربية بـ”دولة وظيفية”، توعد الإمارات “بتصفية الحساب معها في الزمان والمكان المناسبين”، وهو ما جاء أيضا على لسان وزير خارجية تركيا مولود تشاووش أوغلو.
3 ـ إن التوقيت الذي أعلن فيه هذا الاتفاق الإسرائيلي الإماراتي لا يخلو من أجندة أمريكية، وبالضبط من أجندة الرئيس دونالد ترامب. قد يكون هذا الأخير معني بالإعلان عن هذا الحدث التاريخي لتوظيفه في حملته الانتخابية لكسب التأييد اللوبي اليهودي وتسخيره لفائدة ترشيحه لمواجهة خصمه المرشح الديمقراطي جوزيف بايدن، الذي بدأ يتقدم على ترامب في استطلاعات الرأي العام الأخيرة.
وهكذا، يبدو أن هذا التوجه الإماراتي نحو تطبيع العلاقات مع إسرائيل له ما يبرره. ولا شك في أن هذا الحدث سيجد مؤيدين كما سيجد معارضين. والأهم من كل ذلك ليست ردود الأفعال، ولو كان الحكماء والعقلاء من قادة الدول يشتغلون على ردود الأفعال لما حدثت تغيرات في تاريخ الإنسانية. الزعامة الحقيقية هي الزعامة التي ترفع التحدي وتعرف كيف تحافظ على شعوبها وعلى استقرار بلدانها كما فعل المرحوم أنور السادات، وليس كما فعل المرحوم حافظ الأسد واليوم نرى سوريا كما ترونها، أو المرحوم صدام حسين الذي وعدنا بإحراق نصف إسرائيل فأحرق العراق كله. وطبيعي أن نترحم عليهم جميعا، ولا نستثني منهم أحدا. ومن أراد أن يلوم الإمارات كما تريد أن تفعل القيادة الفلسطينية، عليها أن تلوم أولا نفسها لما كان المرحوم الشيخ زايد آل نهيان يغدق بماله وبلا حدود على القيادة الفلسطينية في تونس، كانت فصائل هذه القيادة تتخاصم فيما بينها عن نصيبها من كعكة الشيخ زايد رحمه الله، واختزلت القضية كلها في المال. وليس العبرة أن تتحرك اليوم هذه القيادة باتجاه الجامعة العربية وباتجاه منظمة التعاون الإسلامي فهي استغاثة غريق بغريق، وفي أحسن الأحوال سيصدر بيان يدين هذا الاتفاق. كما سيجد هذا المقال اتهامات من قبيل التخوين على لسان أولئك الذين يناصرون القضية باللغو واللغط. والسؤال الحقيقي وهو ماذا بعد لغطكم هذا؟
التعليقات مغلقة.