كيف غيرت عودة الكبسولة المأهولة إلى الأرض مستقبل السفر إلى الفضاء؟
هذه (العودة) قطرة وحيدة وسريعة فحسب على صعيد الإنسان، لكنها دفق جارف على صعيد البشرية.
مما لا شكَّ فيه أن العودة الآمنة للمركبة الفضائية “كرو دراغون” Crew Dragon التابعة لشركة “سبايس إكس” SpaceX لا ترقى إلى مصاف الهبوط على سطح القمر، وإنما من شأنها قطعاً أن تمثل خطوة جديدة نحو تحقيق نجاحات في مجال السفر إلى الفضاء على ارتفاعات شاهقة مُماثلة.
غادرت الكبسولة الأرض قبل نحو شهرين، حاملةً على متنها رائدي فضاء (بوب بيهنكن وداغ هورلي) في زيارة إلى “محطة الفضاء الدولية” International Space Station، غير أنها تتولى أيضاً واحداً من الاختبارات التي تنطوي على أعظم تحدِّيات على الإطلاق: التقييم النهائي للكبسولة نفسها، وتنفيذ المهمة التي أنيطت بها حين تشييدها، والتأكد من أن باستطاعتها نيل الموافقة للقيام بمزيد من البعثات المنتظمة لـ”ناسا”.
في الواقع، لم تكُن المهمة اختباراً للكبسولة عينها فحسب، وإنما أيضاً لـ”برنامج الطاقم التجاري” Commercial Crew Programme الشامل التابع لوكالة “ناسا”، الخاص بالرحلات التجارية المأهولة. وأفضى ذلك إلى استعانته بشركات خاصة – أكثرها شُهرة “سبايس إكس” لصاحبها إيلون ماسك رجل الأعمال الذائع الصيت – في محاولة لاستعادة نجاحه السابق في مجال السفر إلى الفضاء.
على العموم، تمثل البعثة نجاحاً تاريخياً: إنها المرة الأولى التي تشهد إرسال رُوَّاد فضاء من الأراضي الأميركية منذ توقف “برنامج مكوك الفضاء” Space Shuttle programme في عام 2011، وهي أيضاً عملية الهبوط الناجحة الأولى في البحر في خلال 45 عاماً، منذ برنامج “أبولو” Apollo programme.
وتأمل “ناسا” في أن تلك البعثة ستُعيد وكالة الفضاء وقُدراتها في التحليق الفضائي إلى مستوى الإنجازات التاريخية. ويحدو الوكالة الأمل في أن تكون قادرة الآن على نقل رُوَّاد الفضاء على نحو موثوق به وبانتظام من كوكب الأرض إلى الفضاء، على غرار ما أنجزته بواسطة “مكوك الفضاء”، واستخدام ذلك للتوصل إلى مزيد من الاستكشافات في النظام الشمسي، أسوة ببرنامج “أبولو”.
وعليه، تشيد وكالة الفضاء فعلاً بالبعثة كدليل على أن ذلك التعاون يُجدي نفعاً. وفي بيان صدر بعد الهبوط الناجح للكبسولة في البحر، قال جيم بريدنستين مدير “ناسا”: “مرحباً بعودتكما، بوب وداغ، وتهانينا لفريقي (ناسا) و(سبايس إكس) على العمل الرائع لإتاحة المجال أمام هذه الرحلة التجريبية”.
تابع: “تُعد (البعثة) شهادة على ما في وسعنا تحقيقه عندما نعمل معاً للقيام بما كان يُعتقد أنه مُحال. والتعاون مع الشركاء حيوي في تمكننا من المُضي قُدُماً أبعد من أي وقت مضى، واتخاذ الخطوات التالية بشأن بعثات فضائية جريئة إلى القمر والمريخ”.
ولا ريب في أن إنجازاً بهذا الحجم لا يحدث في لحظة واحدة. وقد أُشيد بالبعثة باعتبارها عملاً موفقاً ما إن أُطلق الصاروخ بنجاح، ولم تشكل التجربة – على الرغم من أنها تشتمل على مُجازفات عالية – سوى تتويج لعملية تقييم شاملة بدأت منذ عام 2015.
قبل ذلك، كان برنامج “ناسا” للرحلات التجارية يعمل طوال سنوات عديدة، على أمل تحقيق هذا الإنجاز الفضائي. وانطلق البرنامج قبل 10 سنوات، وشمل إلى جانب “سبايس إكس”، شركات أخرى أيضاً، بما في ذلك “بوينغ”، الشركة الأميركية لصناعة الطائرات، التي تعتزم تنفيذ اختبارات مأهولة خاصة بها قريباً.
في الحقيقة، تذهب الأسس الفلسفية التي بُني عليها هذا البرنامج أبعد من ذلك. ويمكن القول إنها مُنيت بالفشل في البدء، عندما راهنت “ناسا” والولايات المتحدة على برنامج “مكوك الفضاء” بوصفه مستقبل السفر إلى الفضاء، وعندما طُوي ذلك المشروع من دون تطوير البديل الموعود، اضطرت وكالة الفضاء الأميركية إلى حجز مقاعد على مركبة فضائية روسية بُغية إرسال رواد فضاء تابعين لها إلى “محطة الفضاء الدولية”.
بطبيعة الحال، ليس ثمَّة ما يُشير إلى أن البرامج الجديدة قد ينتهي بها المطاف إلى خيبة أمل مُماثلة. وبدا مكوك الفضاء كأنه المستقبل إلى أن تبيَّن خلاف ذلك، وحقَّقت وكالات الفضاء الحكومية حتى الآن نجاحاً أكبر بأشواط مُقارنة بأي شركة خاصة فيما يتعلق بالسفر في الفضاء، ولكن من المرجح جداً، بالطبع، أن تحقق البرامج الجديدة نجاحاً كبيراً، وبحسب كل من “ناسا” و”سبايس إكس”، يمكن أن يؤدي ذلك النجاح إلى انتقال البشر للعيش على سطح القمر، ثم التوجه من هناك إلى المريخ.
وهكذا، ربما يكون الهبوط في البحر خطوة صغيرة على الدرب الكبير نحو سبر نظامنا الشمسي أكثر مما تخيَّل كثيرون أنه قد يتحقَّق يوماً.
التعليقات مغلقة.