كوستاريكا الطاقة المتجددة والتنمية المستدامة
إعداد/
رامز صلاح الشيشي ، ميرنا محمد مطر
باحثان في العلوم السياسية
تُعد كوستاريكا إحدى، إن لم تكن الدولة الأوحد البارزة والرائدة حاليًا في أمريكا الوسطى وفي العالم الآن في مجال الطاقة المتجددة، بل إنه قد يكون غريبًا ومفاجئًا للكثيرين من المختصين بقضايا الطاقة والمهتمين عمومًا بواقع التغيرات المناخية، وكذا التنمية المستدامة بالقول بإن كوستاريكا تلك الدولة التي تقع في أقصى غرب الكرة الأرضية تسعى بشكل مرن ومضطرد لتكون نموذجًا محوريًّا في تبني مشاريع ذات زخم ملموس في مجال الطاقة المتجددة. ففي الوقت الذي تعصف الأزمات والصراعات الجيوسياسية والجيو اقتصادية بالنظام الدولي الراهن من كل حدب وصوب، نجد في المقابل لمحة إيجابية تبشر بمستقبل أفضل من خلال جهود كوستاريكا الحثيثة في تطويع موارد الطبيعة بما يخدم متطلبات مصلحتها الوطنية الداخلية. ولعل ذلك، سيدفع الكثيرين إلى التساؤل حول كيفية تحقق كل ذلك في كوستاريكا؟
لقد تبنت “سان خوسيه” الطاقة المتجددة كجزء من التزامها بالاستدامة البيئية وخفض انبعاثات الكربون تماشيًا مع التزامات المجتمع الدولي بالقضايا المناخية، وكذا استغلالًا لمواردها الطبيعية. وقد حققت الحكومة الكوستاريكية خطوات كبيرة في تنفيذ تكنولوجيات الطاقة المتجددة وتنويع مصادر الطاقة لديها. تهيمن الطاقة الكهرومائية على مشهد الطاقة في كوستاريكا، والتي تمثل 78٪ من إنتاج الكهرباء، تليها طاقة الرياح والطاقة الحرارية الأرضية والكتلة الحيوية والطاقة الشمسية. وفرت الطاقة المتجددة 99.78٪ من إنتاج الطاقة في البلاد في عام 2020. تعتزم كوستاريكا تحقيق وصيانة توليد الطاقة المتجددة بنسبة 100٪ بحلول عام 2030. إن الإنجازات الهائلة التي حققتها “سان خوسيه” في مجال الطاقة المتجددة تجعلها منارة أمل لكافة الدول التي تتجه بشكل كبير حاليًا تجاه أسواق “الهيدروچين الأخضر”، واستغلال مواردها وثرواتها الطبيعية المتنوعة.
يُمكن الإشارة إلى أن التزام كوستاريكا بالطاقة المتجددة مدفوعًا بعدة عوامل:
1- وفرة الموارد الطبيعية:
تمتلك كوستاريكا موارد طبيعية وفيرة، مثل الأمطار والأنهار المتعددة، التي تمكنها بسهولة من إنتاج وتوليد الطاقة الكهرومائية. بالإضافة إلى ذلك، توفر المناطق البركانية في كوستاريكا الطاقة الحرارية الأرضية، وتوفر رياحها وشمسها إمكانية إنتاج طاقة الرياح والطاقة الشمسية.
2- الشواغل البيئية:
كوستاريكا دولة صغيرة يقل عدد سكانها عن 5 مليون نسمة، مما يسهل إشعال ودفع الجهود للالتزام بالطاقة المتجددة. فتشتهر الدولة بجهودها البيئية، مثل إعادة التدوير، والتي تساهم في سمعتها كدولة «خضراء».
3- الفوائد الاقتصادية:
إن اعتماد كوستاريكا على الطاقة المتجددة له فوائد اقتصادية، مثل تقليل الاعتماد على الوقود الأحفوري وإمكانية توليد وبيع فائض من الطاقة إلى البلدان المجاورة. وبحلول عام 2019، حققت كوستاريكا أكثر من 180 مليون دولار من مبيعات الطاقة الفائضة. ولذلك، يمكننا الاستدلال على حرص القيادة السياسية في كوستاريكا على الالتزام ببنود اتفاقية بباريس للمناخ، والتي أعيد تأكيد الالتزام بها في قمتي COP27، COP28 بخصوص تقليل الاعتماد على الوقود الأحفوري، وتقليل انبعاثات غاز ثاني أكسيد الكربون؛ مع التشديد على مراعاة البُعد التمويلي لمواجهة تلك القضايا المناخية. بالتوازي مع ذلك، ونتيجة الالتزام بقواعد المناخ، استطاعت كوستاريكا جني الكثير من الفوائد الاقتصادية، وستستمر في ذلك حتى تصبح مركزًا رائدًا للطاقة المتجددة إقليميًّا، وعالميًّا.
4- دعم الحكومة:
اعتمدت حكومة “سان خوسيه” أهدافًا طموحة للطاقة المتجددة ونفذت سياسات وأنظمة لدعم نمو قطاع الطاقة المتجددة. فعلى سبيل المثال، ألغى البلد إنفاقه العسكري وأعاد تخصيص نفقاته العسكرية لبناء مرافق للطاقة الكهرومائية وتوسيع الهياكل الأساسية في المناطق الريفية.
ولكن، هل تعلم أن كوستاريكا تسعى أيضًا لتحقيق هدف أكثر طموحًا، وهو أن تصبح أول دولة في العالم خالية من الكربون بحلول عام 2050؟
نعم، إنها الحقيقة. ففي عام 2018، أطلقت كوستاريكا خطة وطنية للتنمية والاستثمار العام، تحت عنوان «كوستاريكا: دولة محايدة من حيث الكربون»، والتي تتضمن 10 محاور استراتيجية، تشمل النقل والصناعة والزراعة والغابات والنفايات والمياه والطاقة والبنية التحتية والتعليم والصحة والسياحة وغيرها.
وتهدف هذه الخطة إلى تحويل كوستاريكا إلى دولة متقدمة ومتجددة ومتنوعة ومتضامنة ومنخفضة الانبعاثات، وذلك بالاستفادة من الفرص الاقتصادية والاجتماعية والبيئية التي توفرها الطاقة المتجددة والتنمية المستدامة. وتعتبر كوستاريكا نموذجًا يُحتذى به في العالم، ليس فقط في مجال الطاقة المتجددة، بل أيضًا في مجال حماية البيئة والتنوع الحيوي وحقوق الإنسان والديمُقراطية والسلام.
وتحظى كوستاريكا بدعم وتقدير دولي، فقد حصلت على جائزة «شامبيون أوف ذا إيرث» (بطل الأرض) من برنامج الأمم المتحدة للبيئة في عام 2019، وجائزة «أمبيشن أوورد» (جائزة الطموح) من قمة المناخ في نيويورك في عام 2019، وجائزة «أوف ذا إيرث» (من الأرض) من منظمة «فريندز أوف ذا إيرث» (أصدقاء الأرض) في عام 2020. وبهذا، تُثبت كوستاريكا أنها دولة صغيرة بحجمها، ولكنها كبيرة بإرادتها ورؤيتها وإنجازاتها، وأنها قادرة على تحدي الصعاب والتغلب على العقبات، وأنها ملهمة للعالم بأسره في سعيها الدؤوب نحو مستقبل أفضل.
وعلى الرغم من التزام البلاد بالطاقة المتجددة، فإن كوستاريكا تواجه أيضًا بعض التحديات والمخاطر، مثل تقلبات الطقس والكوارث الطبيعية والمشاكل الاجتماعية والسياسية. وفي هذا السياق، يمكن أن تكون تجربة كوستاريكا في الطاقة المتجددة والتنمية المستدامة مصدر إلهام وتعلم للدول العربية، التي تمتلك إمكانيات طبيعية وبشرية واقتصادية كبيرة، ولكنها تعاني أيضاً من العديد من المشكلات والصراعات والتهديدات المتبادلة في ظل نظام دولي مضطرب بين الصين والولايات المتحدة الأمريكية وروسيا والاتحاد الأوروبي. فهل يمكن للدول العربية تطبيق تجربة كوستاريكا في مجال الطاقة المتجددة؟ وما هي الشروط والمتطلبات والتوصيات اللازمة لذلك؟ هذه أسئلة مهمة تستحق البحث والنقاش، ولكن بشكل عام، يمكننا القول إن الدول العربية عامةً بحاجة إلى:
أ- تبني رؤية استراتيجية تمويلية واضحة وطموحة للطاقة المتجددة والتنمية المستدامة، تتوافق مع أهداف التنمية المستدامة واتفاقية باريس للمناخ، وتراعي الخصوصية والتنوع والتكامل العربي.
ب- تعزيز السياسات والأنظمة والمؤسسات والآليات الداعمة للطاقة المتجددة والتنمية المستدامة، مثل تشجيع الاستثمارات والمشاريع والشراكات والمبادرات الخاصة بالطاقة المتجددة، وتقليل الاعتماد على الوقود الأحفوري والدعم الحكومي له، وتحسين كفاءة الطاقة والموارد من خلال التوسع في إنشاء محطات الطاقة الشمسية والرياح كما تتبنى الدولة المصرية في رؤية ٢٠٣٠.
ج- تطوير القدرات والمهارات والمعرفة والابتكار والتكنولوجيا في مجال الطاقة المتجددة والتنمية المستدامة، مثل تعزيز التعليم والبحث والتطوير والتدريب والتوعية والتبادل والتعاون العلمي والتقني في هذا المجال.
د- تعزيز التضامن والتعاون والتكامل الإقليمي والدولي في مجال الطاقة المتجددة والتنمية المستدامة، مثل تنسيق السياسات والخطط والبرامج والمشاريع والمبادرات المشتركة بين الدول العربية ومع الشركاء الدوليين في هذا المجال؛ لإحداث تنوع في اقتصاديات الدول العربية.
وبهذه الخطوات، يمكن للدول العربية أن تستفيد من تجربة كوستاريكا في الطاقة المتجددة والتنمية المستدامة، وأن تساهم في بناء مستقبل أفضل لشعوبها من خلال تحسين مستويات المعيشة وتقليل البطالة. وهناك عدة عوامل تمكِّن دول عربية محددة مثل السعودية والإمارات ومصر؛ نتيجةً التشابه في العديد من العوامل البيئية والجغرافية التي تجعلهما مؤهلين بقوة للاستثمار والاستفادة من مجال الطاقة المتجددة، ومنها:
- تلقيهما أشعة الشمس بكثافة عالية لفترات طويلة من العام.
- تمتعهما بمناطق واسعة من الأراضي الصحراوية التي تصلح لإنشاء محطات الطاقة الشمسية.
- وجود سواحل طويلة على الخليج العربي والبحر الأحمر تصلح لإنشاء محطات طاقة الرياح.
وعلى النقيض، تختلف هذه الدول الثلاث في مستوى الاستثمارات الخارجية في مجال الطاقة المتجددة، حيث شهدت الإمارات توسُّعًا هائلًا في ذلك الصدد، وتمثل بشدة في جهود أبو ظبي لطاقة المستقبل “شركة مصدر” والتي تُعَدّ واحدة من أسرع شركات الطاقة المتجدِّدة نمواً في العالم، ناهيك عن مدينة مصدر الإماراتية باعتبارها نموذجًا فريدًا للمدن المستدامة.
وخِتامًا، نؤكد بأن هيكل النظام الدولي يتغير بشكل متزايد، وأصبح للقوى الوسطى دورًا بارزًا فيه بشكل ما أو بآخر في مختلف قارات للعالم في السنوات الأخيرة. وليس من الغريب أو من المصادفة القول بإن السياسة الإقليمية أصبحت تتشكل وتُحدد في ظل مساعي تلك القوى الوسطى الإقليمية في خضم التوترات القائمة وسياسات القوى العظمى حول النفوذ وفرض الهيمنة. ولهذا، فإن اكتساب الطاقة المتجددة زخمًا يمكن تبريره بوجود إدراك كبير بأهميتها كعامل حاسم في أسواق الطاقة وتشكيل السياسات الخارجية مستقبلًا، تمامًا مثل نفس القيمة التي تمثلها موارد الطاقة الغير متجددة في السياسة العالمية.
التعليقات مغلقة.