الجميع مدعو إلى النوم في «غرفة» فان جوخ
كان لبزوغ شمس المدرسة الفنية التشكيلية التي سُمِّيت ب«ما بعد الانطباعية» في نهاية القرن التاسع عشر، دور في ولادة عدد من التحف والأعمال الفنية الخالدة؛ من بينها لوحة «غرفة نوم في آرل» التي رسمها الفنان الهولندي الكبير، وأحد مؤسسي هذه المدرسة فينسنت فان جوخ في أكتوبر من عام 1888، وتعتبر من أشهر أعماله بعد انتقاله إلى «بيته الأصفر» بمدينة «آرل» في الجنوب الفرنسي الساحر، وقد رسمها بالطلاء الزيتي والقماش، وتبلغ أبعادها 72×90 سم.
يضمُّ هذا العمل الفني المزدوج لوحتين هما: «حجرة نوم في آرل» و«البيت الأصفر»، ويعتبر من الأعمال المعبرة بامتياز عن مدرسة «ما بعد الانطباعية» التي تعتبر امتداداً للمدرسة «الانطباعية»؛ ولا سيما أن هاتين المدرستين تشتركان باستخدام الضربات الثقيلة للفرشاة، والتركيز على الألوان الزاهية، فضلاً عن واقعية المواضيع التي تتناولها كلٌّ منهما، ولكن مدرسة «ما بعد الانطباعية» تتميز عن الأخرى بميلها إلى إظهار الأشياء بأشكالها الهندسية الحقيقية، واستخدام ألوان اعتباطية غير حقيقية للأشياء، وكذلك الابتعاد عن التقييد.
إشراقة الألوان
استخدم فان جوخ تشكيلة من الألوان المشرقة في لوحة «غرفة نوم في آرل» التي يظهر فيها سرير باللون العسلي، وفوقه غطاء أحمر في إحدى زوايا الغرفة؛ في حين تم تلوين الجدران بالأزرق الفاتح، وقد لجأ الفنان الهولندي إلى استخدام أسلوبِ تضادِّ درجات الألوان المستخدمة في اللوحة التي تُصوِّر غرفة نوم بسيطة يظهر فيها أيضاً كرسيِّان ومنضدة تعلوها بعض الأواني؛ كما عُلقت صورتان على أحد الجدران؛ إحداها لفان جوخ نفسه، والأخرى لسيِّدة؛ إلى جانب عدد من اللوحات المعلقة؛ في حين تظهر الأشجار في الخارج عبر زجاج نافدة الغرفة.
كما لم يغفل فان جوخ زاوية الانحراف الذي يُميز التصميم الهندسي لأغلبية المنازل الأوروبية، وعليه عَمدَ إلى رسم أحد جدران الغرفة بشكل مائل، وهو ما أكده الفنان الهولندي نفسه في إحدى الوثائق التاريخية الموجودة في متحف فينسنت فان جوخ، والتي أرسلها إلى أخيه «ثيو»، وقال فيها: إنه «تعمّد رسم الأشياء بدون ظلال حتى تبدو الغرفة وكأنها رسم ياباني»، وقد يكون هذا دليلاً على أن فان جوخ كان يتخيل غرفة نومه على الطراز الياباني بما يمتاز به من بساطة وألوان صافية تخلق شعوراً بالراحة والهدوء والتأمل، وتساعد على النوم.
ثلاث نسخ
بعد أن رسم فان جوخ النسخة الأولى من اللوحة، والموجودة حالياً في متحف فان جوخ بمدينة أمستردام الهولندية، أنجز نسختين معدلتين منها؛ وبالتالي أصبحت هناك ثلاث نسخ للوحة ذاتها؛ حيث أصدر النسخة المعدلة الأولى في أيلول من عام 1889، والمتواجدة حالياً بمعهد الفنون في مدينة شيكاجو الأمريكية؛ أما الإصدار الثالث والأخير، فقد أُنجز في نهاية سبتمبر من عام 1889، وهذه الأخيرة موجودة حالياً في متحف «أورسيه» بالعاصمة الفرنسية باريس، وعلى الرغم من التشابه الكبير بين اللوحات الثلاث، إلا أن هناك بعض الاختلافات فيما بينها على أرض الواقع.
في مطلع عام 2016 افتتح معهد الفن في شيكاجو معرضاً حمل عنوان «غرف نوم فان جوخ»، وعُرضت فيه النسخ الثلاث للوحة الشهيرة بعد أن استقدم القائمون على المعرض النسختين الموجودتين في أمستردام وباريس؛ وقد كان هذا الحدث الأول من نوعه في تاريخ الولايات المتحدة؛ كما عَمدَ منظمو المعرض إلى تحويل تفاصيل الغرفة التي رسمها فان جوخ إلى معلومات رقمية، ومن ثم طباعتها، ليتسنى لهم الحصول على نسخة مشابهة لها تماماً.
غرفة حقيقية
لم يتوقف معهد الفن في شيكاجو عند هذا الحد؛ بل قام بإنشاء غرفة نوم حقيقية كتلك التي تظهر في اللوحة بكلِّ ما تضمُّه من تفاصيل وألوان وأثاث وغيرها، وهذه الغرفة تتسع لشخصين وتتواجد داخل إحدى الشقق في مدينة شيكاجو، وهي متاحة للإيجار على موقع «إير بي إن بي» مقابل عشرة دولارات فقط لليلة الواحدة، وقد حظي هذا الإجراء باهتمام وتقدير خبراء الفن الذين أرجعوا أهميته إلى كون «البيت الأصفر» الذي عاش فيه الفنان الهولندي قد تعرض للقصف والتدمير خلال الحرب العالمية الثانية. وفي السياق ذاته، قالت المتحدثة باسم المعهد أماندا هيكس في تصريح صحفي آنذاك: «نتمنى أن نجعل الغرفة طريقة لجلب وجهات نظر جديدة للوحة، والتي لطالما كانت أيقونة للتشكيلة الدائمة للمعهد».
التعليقات مغلقة.